صيدونيانيوز.نت/أقلام ومقالات / العلم النافع أساس التدبر والتمكين
لطالما اعتنى الإسلام بالتربية العقلية التي تربّي المخ، وتنمي قدرته على النظر، والتأمل، والتفكر، والتدبر، وذلك هو الذي يؤهله لحمل أعباء الدعوة إلى الله......
فالعقل نعمة من الله على الإنسان، يتمكن بها من قبول العلم واستيعابه، وإن التعلم وتحصيل العلم وطلبه هو أهم وأقدس وظائف هذا العقل، فمن لم يطلب العلم ولم يسع من أجل الاستزادة منه للخروج من ظلام الجهل، فقد أهمل حق هذه النعمة العظيمة التي أنعمها الله عليه، وجعلها الميزة التي تميز الإنسان عن سائر المخلوقات الأخرى، ومن هنا كان طلب العلم فريضةً على كل مسلم، كما جاء في الحديث النبوي عن أنس بن مالك رضي الله عنه، عن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال: “طلب العلم فريضةٌ على كلّ مسلمٍ، وإنّ طالب العلم يستغفر له كلّ شيءٍ، حتى الحيتان في البحر” (أخرجه ابن ماجه: 224).
وقد وضّح الإسلام الشروط والقواعد التي تحدد منهج التعلم وطلب العلم، حتى يصبح هذا العلم نافعًا لصاحبه ولمجتمعه وأمته؛ فحتى يمكن تحصيل العلم النافع لا بد من تنقية العقل من الوساوس الشيطانية والأهواء الشخصية والتفكير المنحرف والشوائب المضلة، وذلك حتى يتكون العقل السليم المتوافق مع الفطرة الإنسانية السليمة التي فطر الله الناس عليها، ولكي يكون تفكير هذا العقل منضبطًا بمنطلقات ومقاصد الوحي والدين؛ فالعقل السليم هو شرط الانتفاع من العلم في شؤون الدين والدنيا، وهو الذي يؤهل الإنسان لعبادة الله تعالى بالمنهج الصحيح، وللقيام بوظيفة (الاستخلاف) في الأرض، وهي الوظيفة التي كلفه الله تعالى بها.
ولتطهير العقل من كل ما يمكن أن يعيقه عن التفكير السليم بموضوعية وصدق في طلب الحق والحقيقة، فقد وضع الإسلام منهجًا لتربية العقل يتمثّل في عدد من النقاط، من أهمها:
1- تجريد العقل من المسلمات المبنية على الظن والتخمين، أو التبعية والتقليد، فقد حذر القرآن الكريم من ذلك في عدّة آيات، منها قوله تعالى: {إن يتّبعون إلا الظَّنَّ وإنَّ الظَّنَّ لا يغني من الحقّ شيئًا} [النجم: 28]. وقوله سبحانه: {قالوا بل نتّبع ما ألفينا عليه آباءنا أَوَلَو كان آباؤهم لا يعقلون شيئًا ولا يهتدون} [البقرة: 170].
2- إلزام العقل بالتحري والتثبت، قال تعالى: {يا أيّها الّذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأٍ فتبيّنوا أن تصيبوا قومًا بجهالةٍ فتصبحوا على ما فعلتم نادمين} [الحجرات: 6].
3- دعوة العقل إلى التدبر والتأمل في نواميس الكون، قال تعالى: {وما خلقنا السّماوات والأرض وما بينهما إلاّ بالحقّ} [الحجر: 85].
4- دعوة العقل إلى التأمل في حكمة ما شرع الله لعباده من عبادات ومعاملات، وأخلاق وآداب، وأسلوب حياة كامل؛ في السلم والحرب، في الإقامة والسفر؛ لأن ذلك فوق أن يُنضج العقل وينميه بتعرفه إلى تلك الحكم، يعطيه أحسن الفرص ليطبق الشرع الرباني في حياته، ولا يبغي عنه حِوَلا، لما فيه من السكينة والطمأنينة والسعادة البشرية، ولأن الله سبحانه وتعالى إنما شرع ما شرع لذلك، قال سبحانه: {يريد ٱللّه ليبيّن لكمۡ ويهۡديكمۡ سنن ٱلّذين من قبۡلكمۡ ويتوب عليۡكمۡۗ وٱللّه عليمٌ حكيم* وٱللّه يريد أن يتوب عليۡكمۡ ويريد ٱلّذين يتّبعون ٱلشّهوٰت أن تميلوا ميۡلًا عظيمًا* يريد ٱللّه أن يخفّف عنكمۡۚ وخلق ٱلۡإنسٰن ضعيفا} [النساء: 26- 28]. وقال سبحانه: {وقد فصّل لكم ما حرّم عليكم إلاّ ما اضطررتم إليه وإنّ كثيرًا ليضلّون بأهوائهم بغير علمٍ إنّ ربّك هو أعلم بالمعتدين} [الأنعام: 119]....
5- دعوة العقل إلى النظر في سنة الله في الناس عبر التاريخ البشري، ليتعظ الناظر في تاريخ الآباء والأجداد والأسلاف، ويتأمل في سنن الله في الأمم والشعوب والدول. قال تعالى: {ألم يروا كم أهلكنا من قبلهم من قرنٍ مكّنّاهم في الأرض ما لم نمكّن لّكم وأرسلنا السّماء عليهم مدرارًا وجعلنا الأنهار تجري من تحتهم فأهلكناهم بذنوبهم وأنشأنا من بعدهم قرنًا آخرين} [الأنعام: 6]. وقال تعالى: {أَوَلَم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الّذين من قبلهم كانوا أشدّ منهم قوّةً وأثاروا الأرض وعمروها أكثر ممّا عمروها وجاءتهم رسلهم بالبيّنات فما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون} [الروم: 9].
وهذا هو المنهج الرباني للعقل، لكيلا يضل في التيه الذي ضل فيه كثير من الفلاسفة، الذين قدسوا العقل وأعطوه أكثر مما يستحق. وأما الآثار العملية من هذا التوجيه الرباني في العقل فتتمثل في أمور، من أهمها:
1- تنقية العقل من الوهم والخرافة والدجل، والمسلمات المبنية على الظنون والأوهام، وتربيته على التريّث والتثبّت، حتى لا يتسرع فيظلم ويندم، وحينئذ لا ينفع الندم.
2- تعويد العقل على إدراك حقيقة هذا الكون الذي يعيش فيه، وإلزامه بأن يتعرف إلى الحق عن قربٍ ويقين.
3- حثّ العقل على التأمل والنظر في حكمة الله سبحانه وتعالى، فيما شرعه للناس من منهج ونظام، يحقق لهم سعادة الدارين، وتمكين العقل من التأمل في تاريخ البشرية، وهذا التاريخ هو أكبر كتاب وأوسعه أبوابًا وفصولًا؛ ليخرج بفائدة جليلة يستطيع أن يقارن بدقة وحسم بين الكفر والإيمان، وأعمال المؤمنين وضلال الكافرين (محمود، 1990، 1/487).
وضمن هذه الشروط والضوابط يمكن تحصين العقل من الانحراف المنهجي في التفكير والحكم على الحوادث والظواهر التي تحيط بالإنسان، فتصبح نظرة الإنسان لما حوله ربانية، وليست نظرةً دنيوية مادية مجردة، وبذلك يتمكن من تحصيل العلم النافع المطلوب بصورته الحقيقية.
والمقصود بالعلم النافع عمومًا هو ما ينفع المسلم في دينه ودنياه، إذ هو العلم الذي يفهم من خلاله عقيدته وأصول الفقه والعبادات والمعاملات والأحكام والأخلاق في الإسلام، وهو العلم الذي يتعلم من خلاله أيضًا ما يعينه على شؤون دنياه، وما يجعله مواكبًا لمستوى عصره العلمي والمعرفي، ويكسبه دورًا فاعلًا في التقدم العلمي البشري في مختلف العلوم الطبيعية والتطبيقية. وهذا العلم النافع بشقيه هو شرط النهضة والتمكين..، ولذلك فإن تحصيله وطلبه واجبٌ على الأفراد والجماعات من هذه الأمة (الصلابي، 2006).
(د.محمد علي الصلابي/ مدونة العرب )
2025-08-24