Sidonianews.net
----------------------
الجمهورية / جوني منير
ينشغل لبنان بالتحضيرات القائمة لاستقبال رأس الكنيسة الكاثوليكية البابا لاوون الرابع عشر، في أول زيارة خارجية له منذ تسلّمه مهماته رسمياً. ومع ما تحمله هذه الزيارة من معانٍ تجاه بلد لا يزال يعيش في قلب العواصف التي تهزّ ركائز الشرق الأوسط، وهو ما أدّى إلى تراجع حاد في الحضور المسيحي على مستوى المنطقة، فإنّ السؤال الملحّ، والذي يشكّل الهاجس الأول لدى مختلف المجموعات اللبنانية، يتمحور حول ما إذا كانت إسرائيل تحضّر لجولة عنف جديدة، وموعد حصول ذلك. لكن اللافت، وجود توجّه لدى بعض أعضاء الكونغرس الأميركي لزيارة لبنان، بالتزامن مع زيارة البابا، وهي في حال حصولها، ستشكّل رسالة مضاعفة حيال مستقبل لبنان.
خلال الأيام الماضية، استمرت الآلة الإعلامية الإسرائيلية في توزيع الأخبار والمعلومات عن التحضيرات القائمة لشن ضربة عسكرية على قواعد «حزب الله» في لبنان. وكان واضحاً أنّ المعلومات الحربية الجاري بثها، إنما تأتي في سياق منظّم وليس عشوائياً، ما يعني أنّ القيادة العسكرية الإسرائيلية هي من تتولّى التحضير النفسي للشارع الإسرائيلي وتعبئته وفق خطة مدروسة. ويرى البعض، أنّ أحد أهداف التركيز على نجاح «حزب الله» في إعادة بناء قدراته، إنما يهدف إلى رفع مستوى القلق لدى سكان المستوطنات الشمالية لإسرائيل، لتوظيفه في مشروع تبرير مواجهة عسكرية جديدة والتمهيد لها. والسردية الإعلامية الإسرائيلية واضحة لجهة التركيز على عدم التزام «حزب الله» ببنود اتفاق وقف إطلاق النار، عبر العمل على إعادة بناء قدراته العسكرية وتنظيم صفوفه القتالية وحصوله على أسلحة جديدة عن طريق التهريب. لكن اللافت أنّ الدعاية الإسرائيلية تعمد هذه المرّة إلى التركيز على ما تصفه «عجز» السلطة اللبنانية عن الإمساك بالأرض بقواها الشرعية. وتنتقل الدعاية الإسرائيلية إلى الحديث عن حالة القلق والخوف لدى سكان المستوطنات الشمالية من الأوضاع الحاصلة، ما يدفع عدداً منهم إلى عدم العودة إلى منازلهم. ويُبرز الإعلام الإسرائيلي مطالبة وجهاء هذه المستوطنات الحكومة الإسرائيلية باتخاذ خطوات عملية وجدّية لإنهاء «التهديد» الآتي من الشمال، عبر منع «حزب الله» من إعادة بناء قواته. ووفق هذه السردية، تعمل الدعاية الإسرائيلية لتحميل «حزب الله» ومعه هذه المرّة السلطة اللبنانية، مسؤولية ووزر أي عمل عسكري سيحصل لاحقاً، ولرفع المسؤولية عن السلطة الإسرائيلية، على رغم من الخروقات والهجمات والإغتيالات اليومية التي تقوم بها إسرائيل. وربما من هذه الزاوية يمكن تفسير رسائل الغضب الإسرائيلية والموجّهة إلى قوات «اليونيفيل»، كون قيادتها دأبت خلال الفترة الأخيرة على إصدار بيانات تركّز فيها على الخروقات الإسرائيلية المتواصلة. وهذا ما دفع إسرائيل إلى استهداف هذه القوات في رسائل تحذيرية. وكانت قيادة قوات «اليونيفيل» قد أصدرت بياناً أكّدت فيه قيام إسرائيل بالإعتداء على الأراضي اللبنانية في إطار بنائها لحائط الفصل. وجاء الردّ الإسرائيلي عبر استهداف دبابة إسرائيلية لهذه القوات.
والمأزق الحقيقي الذي يدفع نتنياهو إلى الذهاب للتصعيد في لبنان، لا ينحصر فقط في مسألة إعادة ترتيب الساحة اللبنانية وفق المتطلبات الأمنية التي تريدها إسرائيل، بل إنّ المأزق السياسي الداخلي يشكّل الدافع الأكبر سعياً وراء «انتصار» يمنحه بريقاً قادراً على تكبيل أيدي خصومه. فعدا مأزق محاكمته بتهمة الفساد والسيناريوهات التي أدانته أكثر مما أنقذته، فإنّ طرح ملف التحقيق لتوزيع المسؤوليات إزاء عملية «طوفان الأقصى» تقض مضجع نتنياهو، خصوصاً أنّ اليمين الإسرائيلي مستاء من فشل هدفه الضمني والقاضي بترحيل الفلسطينيين عن غزة. فلقد واجه نتنياهو ردود فعل عنيفة من اليمين المتطرف داخل الإئتلاف الحاكم، بعد البيان الأميركي في الأمم المتحدة الداعم لإقامة دولة فلسطينية. ولفتت في هذا المجال نتائج الدراسة التي أجرتها شركة «سكوبر» وشملت 21 ألف شخص، حول منح نتنياهو عفواً في موضوع محاكمته بتهمة الفساد. وجاءت النتيجة أنّ نسبة 15% فقط تؤيّد منح نتنياهو عفواً. وهو ما يعني أنّ نتنياهو يخطو في اتجاه انتخابات تلوح بوادر الخسارة فيها. والخسارة هنا لا تعني فقط الخروج من الحياة السياسية، بل فتح أبواب الإدانة والسجن. ووفق ذلك فإنّ من الصعب تكبيل نتنياهو ومنعه من القيام بمغامرة عسكرية في لبنان، تُحدث دوياً في الداخل الإسرائيلي، وتساعده في خطف الإنتخابات.
وفي الوقت نفسه، فإنّ الرئيس الأميركي دونالد ترامب، والذي بدأ يعاني من ابتعاد الشارع عنه، ما يرفع من مستوى قلقه من احتمال خسارة حزبه للغالبية في الكونغرس بعد أقل من عام، يريد استكمال الإتفاقيات الإبراهيمية، كإنجاز كبير عجز عن تحقيقه جميع أسلافه. وللذهاب في هذا الإتجاه فهو في حاجة إلى اقتلاع ما تبقّى من نفوذ إيراني خصوصاً في لبنان، والبدء بتحضير الحوض الشرقي للبحر المتوسط لشراكة حول الثروة النفطية البحرية بين إسرائيل وتركيا وبمشاركة قبرص ومصر ولبنان.
ومن هذه الزاوية يمكن قراءة بعض جوانب زيارة الرئيس السوري أحمد الشرع المثيرة للبيت الأبيض، والتي يرى بعض المراقبين أنّها تأتي في إطار إعادة ترتيب النظام الإقليمي. وقد حدّد الموفد الرئاسي الأميركي توم برّاك المهمّات التي سيتولّى الشرع المساعدة على تحقيقها، بعد الإعلان رسمياً عن ضمّ سوريا إلى التحالف الدولي لمحاربة الإرهاب. ومن هذه الأهداف محاربة الحرس الثوري الإيراني و«حزب الله».
وسُجّل إحداث مراكز جديدة لقوات الشرع عند الحدود الشرقية ـ الشمالية مع لبنان. وفي حين أبدت بعض المصادر المراقبة اهتمامها بهذا التطور الحدودي، إلّا أنّ أوساطاً لبنانية معنية اعتبرت أنّه لا داعي للقلق، لأنّ ظهور هذه المواقع المُحدثة بدأ قبل زيارة الشرع لواشنطن، وأنّها تأتي في إطار ضبط الحدود لا التحضير لأعمال عسكرية. لكن الظروف دقيقة، والمشاريع المطروحة كبيرة. وفي دلالة إلى خطورة الملفات الجديدة التي حملها معه الشرع بعد عودته من واشنطن، إطلاق صاروخي الكاتيوشا من قاعدة متحركة عند أطراف دمشق في اتجاه منطقة المزة القريبة من مقر الرئيس السوري أي القصر الرئاسي، ومن حي الفيلات الذي يضمّ سفارات ومراكز حيوية ورسمية. وبدا الهجوم ردًا على نتائج زيارة الشرع للبيت الأبيض وانضمام سوريا إلى التحالف الدولي لمحاربة تنظيم «داعش». وكان التنظيم قد شنّ هجوماً على الشرع في افتتاحية صحيفته الأسبوعية «النبأ» وتحت عنوان: «على عتبة ترامب». كذلك حصل هجوم على رواد مقهى شعبي في ريف حمص، والذي يشهد اختلاطاً بين المسيحيين والعلويين. ويأتي ذلك أيضاً إثر اعتقاد عدد من المراقبين بأنّ واشنطن باشرت تركيزها على الملف اللبناني، عبر تكثيف تحركها في اتجاه بيروت، بعد إنجاز ترتيباتها للملف السوري والمهمات المطلوبة من دمشق.
ففي واشنطن، ثمة اعتقاد سائد بأنّ الظرف الحالي الذي تمرّ فيه إيران يشكّل فرصة ذهبية لا يجب تفويتها لإعادة ترتيب المنطقة، في وقت تراهن فيه إيران على لعبة الوقت، وهي اللعبة المفضلة لديها والتي تبرع في تطبيقها.
فهنالك هجمة دولية وإقليمية لتحجيم نفوذ إيران العسكري في الشرق الأوسط، وذلك من خلال إنهاك الإقتصاد الإيراني بموجة من العقوبات الأميركية والأوروبية على القطاعين النفطي والمصرفي، ما أعاد الإقتصاد الإيراني إلى حالة من الشلل الجزئي، بعد سنوات من الإلتفاف على القيود الدولية. كذلك لم تعد العلاقات مع روسيا والصين كافية لتخفيف هذا الضغط، مرّة لانشغال روسيا بحربها مع أوكرانيا، ما يجعلها تتعامل مع طهران من موقع المساومة لا الشراكة، ومرّة ثانية لتحاشي الصين إغضاب ترامب، وهي التي تفضل تنظيم خلافها معه وفي شكل واضح على الذهاب إلى المنطقة الرمادية، والتي لا يمكن عندها التنبؤ بردّ فعل الرئيس الأميركي.
وعلى المستوى الداخلي، ثمة تذمّر واضح لدى الشارع الإيراني من الوضع القائم. ووفق استطلاعات غير رسمية، فإنّ نحو 91% يبدون امتعاضهم من الظروف التي تعيشها بلادهم. وهذا التذمّر كان قد انتقل إلى الشارع مع ما عُرف باحتجاجات «مهسى أميني»، وحمل مطالب معيشية واجتماعية عدة.
ووفق أوساط مطلعة، هنالك جناحان داخل النخبة الحاكمة. الجناح الأول يُصنّف كمحافظ متشدّد، ويقوده رجال الدين القريبون من المرشد علي خامنئي، ويتمسك بالنهج الأمني ويرى ضرورة حماية الثورة من المؤامرات الغربية، وذلك من خلال القبضة الأمنية داخلياً وتعزيز النفوذ الإيراني إقليمياً. أما الجناح الثاني فهو المصنّف بالجناح البراغماتي، ويُعتبر أكثر مرونة في نظرته حول كيفية التعاطي مع التحدّيات القائمة، وهو يضمّ بعض الوجوه من الحرس الثوري إضافة إلى مسؤولين سابقين في الحكومة، ويدعو هذا الجناح إلى انفتاح اقتصادي وتخفيف القيود الإجتماعية بهدف استعادة شرعية النظام.
إلاّ أنّ من الواضح أنّ القرار الإيراني ممسوك من أنصار التيار الأول، وهو ما تؤشر له التعيينات الأمنية والمواقع الحساسة. ويسعى هذا التيار إلى تثبيت موقعه قبل أي انتقال متوقع للسلطة مستقبلاً، عبر إحكام السيطرة على المفاصل الأساسية للدولة. وينتهج هذا التيار سياسة المرونة المحدودة والمدروسة، أي غضّ النظر الإجتماعي بحدود معقولة، لامتصاص نقمة المعارضة. وفي هذا الوقت إفساح المجال أمام العضّ على الجرح وانتهاج سياسة النَفَس الطويل إقليمياً لإمرار المرحلة وتقطيع الوقت، قبل أن يتراجع أعداؤها للإنشغال بمشكلاتهم وأزماتهم الداخلية، ما سيشكّل نقطة التحول لعودة إيران إلى انتهاج سياستها الهجومية الإقليمية مجدداً من خلال السعي لإعادة بناء قواعدها الإقليمية. ومن هنا، تتقاطع تل أبيب مع واشنطن حول ضرورة إنهاء الملف الإيراني في لبنان، ولو اقتضى الأمر عبر ضربة عسكرية، قبل الذهاب إلى ترتيب تسوية لبنانية وفق المعادلة الجديدة. ومن هنا التركيز إعلامياً على احتمال قصف إيران مجدداً، في إشارة لثنيها عن أي مساعدة قد تقدّمها لـ«حزب الله» في حال حصول الضربة العسكرية عليه في لبنان.
لكن الطبقة الحاكمة في إيران، وعلى عكس الشارع ربما، لا تبدي قلقاً كبيراً من احتمال تعرّض إيران لهجمات جوية جديدة. وقد يكون هذا الشعور هو السبب بعدم استعجال إيران إحياء المفاوضات النووية، وهو ما تعلنه على الدوام. وما يدفع بعض المراقبين للإستغراب، أنّ إيران لا تتصرف كدولة تخشى هجوماً وشيكاً أو خطراً داهماً. وهو ما يطرح علامات استفهام عمّا إذا كان هنالك من خطوط خلفية مفتوحة وتحصل فيها التفاهمات بعيداً من الأضواء، وهو الأسلوب الذي ترتاح اليه طهران تاريخياً. والسؤال البديهي هنا، هو أنّه في حال وجود هذه التفاهمات، هل تطال لبنان أم أنّ الحسابات اللبنانية تخضع لصياغة مختلفة؟
خلال الإجتماع الأخير للجنة «الميكانيزم»، طرحت إسرائيل وجوب قيام الجيش اللبناني بتفتيش كل منازل جنوب الليطاني تحت ذريعة وجود أسلحة ومسيّرات مخبأة في هذه البيوت وأيضاً مداخل أنفاق. وبالطبع رفض الجيش اللبناني الطلب الإسرائيلي. وكذلك بات الكلام الإسرائيلي ومعه الأميركي يتحدث عن السلاح جنوب وشمال الليطاني. وإذا أضفنا هذه المؤشرات إلى المناخ السياسي والتحركات العسكرية القائمة، فإنّ المشهد يبدو قاتماً بلا شك.
----------------------------
جريدة صيدونيانيوز.نت / اخبار لبنان / واشنطن تعاود تركيزها على لبنان
2025-11-17





