Sidonianews.net
------------
بقلم : خليل ابراهيم المتبولي
في مساءٍ يعبق برائحة البحر وأصداء التاريخ، اختتمت بلدية صيدا أنشطتها الصيفية ببرنامج فني استثنائي حمل عنوان "طيور أيلول"، جعل من قلعة صيدا البحرية مسرحًا مفتوحًا للضوء والصوت والذاكرة.
تلك القلعة العريقة التي شهدت على أزمانٍ من المجد والصراع، أشرقت هذه المرّة بلغةٍ جديدة، لغة الضوء والموسيقى، لتحكي قصة المدينة التي لا تنام على رمادها، بل تنهض من رمادها كلّ مرةٍ لتغنّي من جديد.
كانت صيدا على موعدٍ مع الحلم. لم يكن الحلم بعيدًا عن موجها ولا عن ماضيها، بل تجسّد أمام العيون على هيئة ضوءٍ يُحاور الحجر، وصوتٍ يستنطق الذاكرة.
بدت القلعة كأنها تنهض من نومٍ عميق، تغتسل بألوانٍ تتبدّل مع أنفاس الموسيقى، ضوءٌ أحمر يحاكي لهيب المعارك، يتبعه صدى بكاءٍ بعيد، كأنّ الحجارة نفسها تبكي على زمنٍ مضى.
ثمّ تمتدّ ألسنة النور كخيوط نارٍ تلتهم الأسوار، في مشهدٍ يعيد للذاكرة حريق القلعة ومآسي الحروب التي مرّت بها المدينة عبر القرون.
لكنّ هذا الحريق لم يكن موتًا، بل بعثًا جديدًا، إذ سرعان ما تفتح الظلمة على خضرةٍ ناعمةٍ تمتدّ على الجدران، وتزهر شجرةٌ من الضوء في قلب المشهد، تتبعها أصواتُ ضحكاتٍ ووقعُ خطواتٍ طفولية تعلن عودة الحياة إلى المكان.
كان العرض حكاية صيدا مختزلةً في دقائق: تُصاب، تنهار، ثمّ تقوم من تحت الركام أكثر إشراقًا، وأكثر عنادًا على الحياة.
لم تكن الموسيقى خلفيةً للحدث، بل كانت روحه العميقة. أنغامها تنساب من بين الحجارة كنسمةٍ بحرية، تارةً حزينة كأنين الموج على الشاطئ الفارغ، وتارةً متمرّدة كالريح في وجه المرافئ.
حين ارتفعت أصوات البحارة بأغنية «شدّوا الهمة ويا بحرية»، ارتجّت القلعة القديمة وكأنها مركبٌ يعاند العاصفة، وبدت الصور المرسومة على الأسوار لبحّارةٍ في مراكبهم كأنها تخرج من الضوء لتبحر فعلًا في عرض البحر.
وفي اللحظة التي صدحت فيها أغنية «اسمك يا صيدا»، كان الجمهور قد أصبح جزءًا من المشهد، يهتف ويصفّق، وتتمازج الأصوات مع الموج في كورالٍ واحدٍ من الفرح. كأنّ المدينة بأسرها غنّت لنفسها، من قلب القلعة، من عمق البحر، من ذاكرةٍ لا تشيخ.
ما حدث في تلك الليلة لم يكن عرضًا فنيًا عابرًا، بل نصًّا بصريًا كتبته المدينة بنفسها. كان الضوء فيها بمثابة الكلمات،والموسيقى بمثابة الإيقاع، والقلعة هي الورق القديم الذي دوّنت عليه صيدا تاريخها بلغةٍ جديدةٍ هذه المرة.
كأنّ «طيور أيلول» أرادت أن تقول إن الفنّ قادر على أن يعيد المعنى إلى الحجر، والروح إلى المكان، وأنّ المدن، مثل البشر، تشفى حين تتذكّر وتغنّي.
في نهاية المشهد، حين انطفأت الأضواء ببطء، بقي في الجوّ صدى الألحان وملح البحر ورعشة الضوء على الوجوه. الناس خرجوا من الساحة ووجوههم تضيء كمن عاد من رحلةٍ داخل ذاته، فقد شاهدوا في القلعة صورة مدينتهم وصورتهم هم، بين الأمس واليوم، بين الألم والرجاء. ولعلّ هذا هو سرّ صيدا الدائم، أنها تعرف كيف تحوّل الجرح إلى أغنية، والرماد إلى بداية، والبحر إلى مرآةٍ تُرى فيها الحياة.
في ختام الصيف، لم تُطفئ صيدا أنوارها، بل أشعلت ذاكرةً جديدة تُضاف إلى سجلها البحري الطويل. فالمدن التي تُنير تاريخها بالضوء، وتغسله بالموسيقى، لا تعرف الغياب.
وصيدا، تلك العروس القديمة على حافة المتوسط، ما زالت تُرسل طيورها في أيلول، لتخبر البحر أنّها باقية،تُغنّي، وتبتسم، وتُضيء الليل بحكايةٍ لا تنتهي...
حين تتجلّى المدن في الضوء، يُصبح الفنّ صلاةً من نوعٍ آخر. فالضوء الذي يرقص على جدران القلعة ليس زينةً عابرة، بل ذاكرةٌ تتنفّس، تستعيد صوت الذين مرّوا من هنا، وتعيد ترتيب الحنين في هيئة لونٍ ونغمةٍ وومضة.
في تلك الليلة في صيدا، أدركتُ أنّ المدن التي تعرف كيف تحكي قصّتها بالفن لا تموت، بل تظلّ تضيء، لا لتُبهر الآخرين، بل لتتذكّر نفسها.
فربما كان الفنّ في جوهره عودةً إلى البيت الأول، إلى الموجة التي تشبهنا، وإلى الحلم الذي لا يريد أن ينطفئ.
وكم كانت صيدا، في «طيور أيلول»، تشبه ذاتها مدينةً تعيش في ضوءٍ لا يزول، وموسيقى لا تنتهي.
--------
جريدة صيدونيانيوز.نت
خليل المتبولي : طيور أيلول... حين لبست صيدا ثوب الضوء وغنّت للبحر
2025-10-05




