Sidonianews.net
----------------------
الجمهورية / جوني منير
تأخّر «حزب الله» بعض الشيء قبل أن يصدر موقفه من مقررات جلسة مجلس الوزراء المتعلقة بسلاحه. وقد يكون السبب مرده إلى شعوره بالمفاجأة مما حصل، خصوصاً إثر الإتصالات التي كانت سبقت الجلسة. لكن هنالك من يعتقد أنّ السبب يعود لاستكشاف المناخ الإقليمي، وتحديداً الإيراني، وتبيان السقف الذي يمكن أن يصل إليه اعتراضه.
وخلال الأيام التي تمّ فيها التحضير لانعقاد الجلسة، أعرب «حزب الله» لرئيس مجلس النواب نبيه بري عن توجسه من الأجواء التي تحوط بالورقة الأميركية، وأنّه يريد مقاطعة الجلسة والتلويح باحتمال استقالة وزرائه من الحكومة. وكان جواب بري أنّ أي خطوة لـ«حزب الله» في أي اتجاه كانت ستشاركه حركة «أمل» فيها. لكنه أردف أنّه أرسل إلى رئيس الجمهورية العماد جوزاف عون طالباً تأجيل النقاش ببند السلاح لمدة أسبوع، لكن الجواب أتى سلبياً. وأضاف بري، أنّه لا يرى مصلحة في مقاطعة الجلسة وإخلاء الساحة الحكومية. فعندها ستصدر قرارات عن مجلس الوزراء ليست في مصلحة «الثنائي» الشيعي، وتصبح الأمور عندها في مكان آخر، خصوصاً أنّ الضغوط الخارجية كبيرة ومعروفة. وسمع «حزب الله» من بري أنّه تلقّى تطمينات بأنّ النقاش حول بند السلاح لن يذهب في اتجاه تحديد مهل زمنية، أما في حال الذهاب في هذا الإتجاه فيمكن عندها الإنسحاب من الجلسة.
إقتنع «حزب الله» بالمنطق الذي أورده بري وعدل عن فكرة المقاطعة. وفي موازاة ذلك عمد الأمين العام لـ«حزب الله» الشيخ نعيم قاسم إلى تحديد موعد كلمة له بالتزامن مع موعد انعقاد الجلسة. وجاءت كلمته نارية وعالية السقف وفي حضور السفير الإيراني مجتبى أماني، والذي ظهر على الشاشة وهو يشارك الحضور الإستماع إلى الكلمة. والرسالة التي أرادها هنا كانت واضحة. وجاءت مفاجأة قاسم حين تحدث وللمرّة الأولى عن أنّ وجود المقاومة هو دستوري وورد في «اتفاق الطائف»، وهو ما حمل لغطاً كبيراً حول المقصود بذلك، جاء التوضيح لاحقاً بأنّ كلامه هنا جاء رداً على الورقة التي قدّمها الموفد الرئاسي الأميركي توم برّاك، ولحظت في مقدمتها الإشارة الى «وثيقة الوفاق الوطني»(اتفاق الطائف). وتالياً لم يكن المقصود من ذلك التلميح لأثمان دستورية.
لكن «حزب الله» بدا في حالة صدمة بعد إعلان رئيس الحكومة نواف سلام بنفسه ما تقرّر حول البند المتعلق بالسلاح وإدراج مهلة نهاية السنة. لكن وعلى رغم من انسحابه من الجلسة إعتراضاً على ما تقّرر، إلّا أنّ «الثنائي» الشيعي لن يعمد لمقاطعة جلسة اليوم، وبالتالي مقاطعة الحكومة. وهذا مؤشر بالغ الأهمية لا يقف عند الحسابات الداخلية فقط، لا بل إنّه يمتد إلى المناخ الإقليمي، وتحديداً الإيراني. صحيح أنّ «الثنائي» الشيعي سيتمسك بطلب العودة عمّا تقرّر، لكنه يدرك جيداً أنّ ما كُتب قد كُتب، وأنّ من المستحيل على الحكومة العودة عن القرار، لأنّ ذلك سيعني سقوط ليس الحكومة فقط، وإنما أيضاً كل التركيبة التي نشأت منذ انتخاب الرئيس عون، وهو ما يبدو مستحيلاً أقلّه وفق الحسابات الحالية. لذلك سيضغط «الثنائي» الشيعي في اتجاه إدخال تعديل على القرار من خلال إضافة الطلب أن يحصل ذلك ضمن هذه المهلة، ولكن بعد إلزام إسرائيل بوقف اعتداءاتها، وتنفيذ انسحابها من جنوب لبنان.
وثمة مؤشر ثانٍ لا يقلّ أهمية. فخلال الأيام التي سبقت إنعقاد الجلسة ساد لغط كبير حيال احتمال انفلات الوضع الأمني في الشارع في حال تجاوبت الحكومة وحدّدت مهلاً زمنية. وبعض هذا اللغط جاء بسبب حال «الشوشرة» عند الناس، أما بعضه الآخر فكان مقصوداً وبهدف التهويل والضغط. لكن وعلى رغم من صدور القرار الصادم، إلاّ أنّ الشارع لم يتحرك، وبقيت ردود الفعل في إطار ضيّق وليس في إطار قرار كما حصل في 7 أيار 2008. وهو ما يثبت مرّة جديدة، أنّ المناخ الإقليمي لا يحبذ الذهاب إلى صدام داخلي مع الجيش اللبناني. فلذلك معناه بأنّ إيران باشرت خطة تقضي بإسقاط المعادلة الجديدة التي نشأت في لبنان برعاية أميركية وسعودية، ولهذا الأمر أكلافه وتداعياته. ومن هذه الزاوية لا بدّ من قراءة الأبعاد الحقيقية لما جرى، والسعي لفكفكة القطب المخفية. صحيح أنّ الشارع اللبناني غرق في التفاصيل المحلية لما حدث، لكن الواقعية تفرض قراءة المشهد اللبناني من خلال اللوحة الإقليمية الشاملة، طالما أنّ الجميع يقرّ بأنّ ما حصل جاء في سياق ترتيب الخريطة السياسية الجديدة للمنطقة بين واشنطن والرياض من جهة وطهران من جهة أخرى، ولبنان يشكّل أحد أجزاء هذا الترتيب الجديد.
وخلال الأسابيع الماضية بدت الأجواء ملبّدة بين واشنطن وطهران، أو على الأقل هذا ما ظهر عبر المواقف المعلنة، وخصوصاً حول الملف النووي الإيراني. وهكذا اندفع «الحشد الشعبي» في العراق لوضع إطار مؤسساتي وقانوني لهيكليته بنحو مستقل وبمعزل عن وزارتي الداخلية والدفاع. وفي اليمن استعاد الحوثيون نبرتهم الهجومية مرّة بتهديد الممرات المائية، ومرّة أخرى باستهداف إسرائيل بالصواريخ. أما في غزة فتعثّر إتفاق وقف النار وسط تحميل واشنطن المسؤولية لحركة «حماس» وضمناً لطهران. وفي لبنان استعاد «حزب الله» سلوكه المشاكس من خلال رفضه التجاوب مع مسعى برّاك، الذي غادر بيروت في ما يشبه فشل مهمّته. وكان كل ذلك يترافق مع إعلان طهران رفضها المطلب الأميركي بمنعها من تخصيب اليورانيوم.
في الواقع، وبعد انتهاء حرب الـ12 يوماً على إيران، تحدثت أوساط أميركية عن مهلة زمنية تحتاجها إيران لإعادة تعويض خسائرها وإعادة ترميم مشروعها وتقدّر بنحو السنة. وبالتالي فإنّ طهران تود استهلاك هذه الفترة بشراء الوقت من خلال التفاوض والمراوحة، تمهيداً لإعادة ترميم برنامجها النووي وإعادة تصنيع قدراتها الصاروخية، وخلق ممرات جديدة تؤمّن تواصلها مع حلفائها في لبنان واليمن والعراق وسوريا. ومن البديهي توقّع حصول تحرّك أميركي لمنع إيران من تحقيق مبتغاها. كذلك اندفعت واشنطن في خطة تقضي بخنق كل المسارب التي تعتمدها إيران لتأمين ما تحتاجه من عملات صعبة، من خلال تهريب النفط عبر الأسواق السوداء. لذلك تواصلت واشنطن مع لندن وباريس وبرلين لفرض عقوبات إقتصادية أوروبية على طهران. لكن إدارة ترامب تدرك أنّ هذه الخطوة تبقى ناقصة، خصوصاً أنّ معظم النفط الإيراني المهرّب تشتريه الصين بأسعار مخفوضة. ولذلك باشرت واشنطن مفاوضات صعبة مع بكين لقطع هذا الشريان المالي الذي تتنفس منه الخزينة الإيرانية.
لكن القيادة الإيرانية والتي تعمل على لملمة النتائج الصعبة للحرب الجوية التي استهدفتها، تدرك ووفق دروس الحرب، أنّ هامش حركتها بات ضيّقاً، أضف إلى ذلك، أنّ فترة السنة التي تحتاجها ليست مدة قصيرة. فكيف إذا اشتدت عوامل حصارها وخنق اقتصادها؟
وخلال الأيام الماضية أرسلت إيران إشارة بالغة الأهمية من خلال تعيين علي لاريجاني أميناً للمجلس الأعلى للأمن القومي، والذي يتمتع بصلاحيات واسعة ومهمّة. وصحيح أنّ لاريجاني ينتمي إلى جناح المحافظين، إلّا أنّه معروف بواقعيته واعتداله، ما يجعله من خارج المجموعة المتشدّدة. وهذا ما أدّى إلى محاربته من متشدّدي الجناح المحافظ، وبالتالي إلى إقصائه عن الساحة السياسية. وهو السبب الذي أدّى إلى رفض أهليته للإنتخابات الرئاسية عامي 2021 و2024. واستطراداً، فإنّ إعادته إلى موقع أساسي في هذه المرحلة بالذات له معناه الكبير، خصوصاً أنّه كان تقرّب من الجناح الإصلاحي وتحديداً من فريق الرئيس السابق حسن روحاني. وعدا أنّ عودته تشكّل دليلاً على تراجع قوة المتشددين إثر نتائج الحرب الأخيرة، إلّا أنّ الأهم أنّه ومن خلال موقعه الجديد سيتولّى المشاركة في هندسة السياسة الإقليمية لإيران وسط النزاع الحاصل، وصولاً إلى العلاقات مع السعودية وتركيا. إضافة إلى ما يتعلق ببعض جوانب المفاوضات النووية. وبالتالي فإنّ «واقعية» لاريجاني ستجري ترجمتها على المستوى الأميركي، وأيضاً وخصوصاً، على المستوى السعودي. ولا حاجة للإشارة إلى أنّ النزاع الحاصل على الساحة اللبنانية تلعب فيه السعودية دوراً أساسياً.
وعلى الضفة الأخرى، هنالك إشارات أميركية إيجابية ومعبّرة. فعلى رغم من المواقف الإعلامية المتشنجة والتلويح باحتمال عودة الحرب، عمدت وزارة الدفاع الأميركية إلى التخفيف من عديد قواتها في الشرق الأوسط وسحب قطع بحرية أساسية، وصولاً لإعادة حجم القوات إلى ما كان عليه قبل الحرب ومرحلة التوتر. وهي إشارة واضحة إلى أنّ واقع الأمور الحقيقي لا يشي بالتصادم، لا بل على العكس بوجود تفاهمات غير معلنة. وهنا لا بدّ من التذكير بالكلام الذي كان أدلى به الموفد برّاك خلال إحدى مقابلاته الإعلامية في بيروت، من أنّ احتمال عدم حصول اتفاق مع إيران ضئيل جداً. ولا بدّ من الإشارة هنا إلى الحركة الضاغطة التي تقوم بها الجالية الإيرانية في الولايات المتحدة الأميركية، والتي تضمّ تجاراً وأشخاصاً نافذين (والعديد منهم معارض للنظام القائم) لمصلحة حصول تفاهم أميركي ـ إيراني.
هذه المؤشرات توحي بوجود شيء ما تجري حياكته في الكواليس بين إدارة ترامب وطهران. وهو ما يعني أنّ وجهة الأمور حيال كل ملف المنطقة والنزاع مع إيران لا يميل في اتجاه الذهاب إلى مواجهات جدّية، ولا باستهداف إيران للمصالح الأميركية أو السعودية المستجدة، والتي ظهرت كنتيجة للحروب التي اجتاحت المنطقة. ولكن هذا لا يمنع الإشتباك الإعلامي والسياسي، لا بل إنّ هذا الإشتباك قد يكون مطلوباً لتأمين الغطاء للتفاهمات العميقة الجاري حياكتها في الكواليس. وهو ما يفسّر الضغط الأميركي والسعودي لإنجاز ملف السلاح الآن وقبل انتهاء السنة الحالية، وفي المقابل إكتفاء «حزب الله» باعتماد التصعيد السياسي، ولكن من دون خطوات تؤذي التركيبة التي قامت منذ مطلع السنة الجارية. ما يعني أنّ الحكومة باقية، وأنّ الصدام مع الجيش ممنوع. أي وفي اختصار، لا استعادة للسابع من أيار.
تبقى الإشارة إلى نقطة أساسية تدركها طهران جيداً وتتعلق بالحساسية الإسرائيلية من حصول صفقة أميركية مع إيران. فرئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو إندفع إلى الأمام في حربه على غزة، وكأنّه يريد حرباً بلا نهاية. وهو أيضاً يتحين الفرصة لاندفاع مماثل في لبنان. لكن المفاجئ إعتراض رئيس أركان الجيش الإسرائيلي زامير يئير، وهو ما أثار دهشة المراقبين. فالأخير ينتمي إلى اليمين الإسرائيلي، ويوم تعيينه تمّ تصوير ما حصل بمثابة إنجاز ونقطة تحول داخل المؤسسة العسكرية. إلّا أنّ هذا الخلاف كشف بنحو لا لبس فيه، أنّ النزاع الحاصل ليس مجرد تعارض في وجهات النظر كما كان نتنياهو يصور الأمور مع القادة السابقين، بل إنّ قرارات نتنياهو تنبع من اعتبارات سياسية وليس عسكرية أو أمنية بحتة. لذلك لا بدّ من أنّ طهران تسعى لتفويت فرصة إسرائيل لتقويض أي تفاهمات مع واشنطن هي بأمسّ الحاجة إليها.
وفي المحصلة، فإنّ الأصوات العالية التي سادت الساحة اللبنانية لن تتحول بالضرورة خطة عمل لتفجير المعادلة التي سادت أخيراً ويُعمل على تثبيتها وتمتينها، وسط بدء ظهور مرحلة نزاع جديدة في سوريا وقد تمتد إلى لبنان وعلى أنقاض حقبة النفوذ الإيراني. وهذا النزاع بدأ في سوريا بين إسرائيل وتركيا، وحيث باتت إدارة ترامب تقتنع بوجوب رسم خطوط حمر لشهية تركيا في سوريا والعراق وإلى حدّ ما لبنان. وهذا النزاع الجديد قد يؤدي إلى حصول تقاطعات بين إيران وإسرائيل ولو من زاوية مختلفة كلياً لكل منهما.
--------------------------
جريدة صيدونيانيوز.نت / اخبار لبنان / دخان كثيف لحجب القطب المخفية
2025-08-07