الرئيسية / أخبار صيدا /مقالات /خليل متبولي: مصطفى سعد، الحاضر في الغياب، ونهج لا يغيب

جريدة صيدونيانيوز.نت / خليل متبولي: مصطفى سعد، الحاضر في الغياب، ونهج لا يغيب

 

Sidonianews.net

----------------------

بقلم : خليل ابراهيم المتبولي

يغيب عنا جسدًا ويستمر معنا نهجًا، رجلٌ لم يكن عابرًا في تاريخ الوطن، بل كان أحد أعمدته، رمزًا من رموز النضال الوطني والمقاومة الشريفة، المناضل مصطفى معروف سعد. ذاك الذي حمل الجنوب في قلبه، وحمل قضايا الأمة في ضميره، وسار في درب شائك لم تغره فيه السلطة، ولم تُثنه عنه التهديدات، ولم تغوه المناصب، فكان قائدًا شعبيًا من طراز نادر، ورجلًا لا يساوم ولا يبدّل، في زمنٍ اعتاد كثيرون فيه على التلوّن وتبديل المواقع.

مصطفى سعد لم يكن ابن الشهيد معروف سعد وحسب، بل كان امتدادًا لمدرسة نضالية جذرية لا تعرف التنازل عن الحقوق الوطنية، ولا تنحني أمام العواصف. حمل راية والده يوم اغتاله الرصاص الغادر في انتفاضة صيدا عام 1975، وبقي على العهد، وفيًا للدم، صلبًا في الموقف، منخرطًا في القضايا الكبرى، من القضية الفلسطينية التي آمن بها حتى آخر نفس، إلى قضية تحرير الجنوب التي نذر لها شبابه وطاقته. كان الصوت المدوي في وجه الاحتلال، واليد التي امتدت لتحمل السلاح حين لزم، وتمد يدها للسلام حين يُبنى على الكرامة والحق، لا على الذل والخضوع.

لم يكن الجنوب مجرد جغرافيا بالنسبة إليه، بل كان الجبهة المفتوحة التي لا تغلق، والميدان الذي لا يخلو من الحضور والواجب. كان من أوائل من بادروا إلى تشكيل خلايا المقاومة ضد الاحتلال الإسرائيلي في صيدا ومحيطها، حين كان كثيرون يبحثون عن مبررات الصمت أو مساومات النجاة. قاوم من موقع الوطني العروبي التقدمي، لا يميز بين طائفة وأخرى، ولا يختبئ خلف شعارات ضيقة أو مصالح حزبية. حين اجتاح العدو الإسرائيلي لبنان عام 1982، رفض أن يغادر مدينته، وبقي في صيدا يقاتل بالغالي والنفيس، حتى كان له الدور الأساسي في إبقاء جذوة المقاومة حيّة في الجنوب، في وقتٍ تراجع فيه كثيرون إلى الصفوف الخلفية.

ولأن مواقفه كانت شوكة في عين الاحتلال وأدواته، كان من الطبيعي أن تُستهدف حياته، فكانت محاولة اغتياله عام 1985 تفجيرًا همجيًا استهدف جسده، وأصاب بصره، لكنه لم يصب بصيرته. خرج من المحاولة مثخنًا بالجراح، لكنه عاد أكثر إصرارًا، وأكثر تماسكًا، وواصل قيادة العمل السياسي والمقاوم، متمسكًا بنهجه المبدئي. لم يتراجع، لم يتعب، ولم يهادن. شارك في الحياة النيابية اللبنانية من موقع الرجل الذي لا يساوم، فكان منبرًا للمظلومين، وصوتًا للمقاومين، ووجهًا لبنانيًا نقيًا لم تلوّثه الصفقات ولا المصالح.

في المجلس النيابي، لم يكن مصطفى سعد مجرد نائب عن صيدا، بل كان ممثلًا حقيقيًا لكل لبناني حر. وقف بصلابة في وجه السياسات الطائفية التي عمّقت الانقسام، ورفض المشاريع الاقتصادية المشبوهة التي سعت لتفكيك الدولة وتحويلها إلى شركة تجارية في يد أصحاب النفوذ. رفض خصخصة المرافئ العامة، ووقف ضد نهب الدولة، ورفع الصوت عاليًا كلما شعر أن هناك من يتاجر بدماء الناس أو بمصيرهم. لم يكن خصمه الطائفة أو الحزب، بل منظومة الفساد والاحتلال والعمالة والهيمنة، فواجهها جميعًا بما يملكه من صدق ونزاهة وشعبية حقيقية.

نفتقده اليوم أكثر من أي وقت مضى. نفتقد صوته الوطني الجامع، نفتقد حكمته في إدارة الخلاف، وجرأته في قول الحق، وثباته حين تترنّح المواقف. في زمن تتقدّم فيه التسويات على الثوابت، والانتهازية على المبادئ، نفتقد مصطفى سعد، لأننا في حاجة ماسّة إلى رجل يضع الوطن أولًا، لا الطائفة ولا الحسابات الشخصية، إلى من يعتبر أن صيدا ليست مجرد مدينة، بل عاصمة الجنوب، ورافعة النضال الوطني والعروبي، ومختبر التعايش والحياة الكريمة.

لم يكن زعيمًا بالمعنى التقليدي، بل كان قائدًا شعبيًا نبض الناس معه وباسمه. اختارته الناس لأنه يشبههم، ويعبّر عنهم، ويدافع عنهم. من أزقة صيدا القديمة، من بين ركام البيوت التي دمّرها الاحتلال، ومن بين دموع الأمهات ووجع المقاومين، خرج مصطفى سعد ليكون أملًا ومثالًا، ليعيد للناس ثقتهم بأن هناك من يقف في صفهم، لا فوقهم. واليوم، ونحن نواجه أسوأ الانهيارات الاقتصادية والسياسية، نعود إلى أدبياته السياسية، إلى إخلاصه للفقراء، وإيمانه بالعدالة الاجتماعية، وعقيدته التي لم تتبدل، إلى مقاومته التي لم تكن بندقية فقط، بل كانت مشروعًا متكاملًا من أجل لبنان العادل الحر المقاوم.

لقد ترك إرثًا نضاليًا كبيرًا، لا يملكه إلا القلة من الرجال. إرثًا من الموقف والدم، من الثبات في زمن التلون، ومن الإيمان العميق بالوطن والدولة والمؤسسات. ومسؤوليتنا أن نصون هذا الإرث، لا أن نحوله إلى شعار فقط، بل إلى نهج نكمل به الطريق، ونور نرشد به الأجيال، لأنه ليس مجرد ذكرى، بل هو طريق واضح لمن أراد السير على درب الكرامة.

وفي ذكراه، لا نرثي مصطفى سعد، بل نستحضره. نقول له: نحن على العهد. لن ننسى، ولن نفرّط، وسنظل نؤمن أن في لبنان رجالًا لا يموتون، لأنهم غرسوا في الأرض فكرة المقاومة، وجعلوا من التضحية شرفًا، ومن الوطنية سلوكًا لا شعارًا. سلامٌ عليك يا مصطفى معروف سعد، في عليائك، وسلامٌ على دربك الذي ما زال نورًا لنا في هذا الظلام الطويل.

---------------------------

جريدة صيدونيانيوز.نت / اخبار مدينة صيدا / خليل متبولي: مصطفى سعد، الحاضر في الغياب، ونهج لا يغيب

2025-07-24

دلالات: