الرئيسية / أخبار لبنان /شؤون إعلامية وصحافية /لماذا تغتالُ الحربُ الصورةَ؟

جريدة صيدونيانيوز.نت / لماذا تغتالُ الحربُ الصورةَ؟

 

Sidonianews.net

------------------------

نداء الوطن / جيمي الزاخم

مع غروبِ يوم الجمعة 13 تشرين الأول، أطفأ العدوّ الاسرائيلي شمسَ الصورة والكلمة. بدم إجرامه المتكرّر، صوّب صواريخه نحو طاقمٍ إعلاميّ. وشُيِّعت عينُ المصوّر عصام عبدالله على كتف المؤسسات الإعلامية. خبّأ عمرَه في عدستِه التي حرسَت قبرَه. كان يحمل كاميرتَه وخبرتَه وقدره في كل معركة وتغطية. لم تكن المرة الأولى ولن تكون الأخيرة التي تُقتل فيها الصورة. فالمصوّر شاهدٌ تُغتال ألفُه، تُبتر قدمُه. يحاول متابعةَ المسار ومواجهة المصير. لكنّ الألف تغدو ياءً. ويعود الشاهد إلى أهله شهيداً. اليد العسكرية تمتدّ دائماً إلى قلب الكاميرا. فالصورة سيّدةُ الحروب العسكرية والنفسية بتقنيّاتها، قدراتها وأهدافها.

إنّ كلَّ خبر وكل معركة تُكلّلهما الصورة. الصورةُ ليست عكازاً للكلام. هي الوثيقةُ والذخيرة. في روايته الشهيرة «الآباء والبنون» (صادرة عام 1860) يناصر الروائيُّ الروسي إيفان تورغينيف الصورةَ، لأنّ «ما تقوله لا يمكن أن يعبّر عنه كتابٌ بألف كلمة». في كلّ المجالات وسيناريواتها، لم تؤدِّ يوماً دورَ شخصية ثانويّة. في كتابه «كفاحي» يقول هتلر إنّ الصورة تُوصل الفكرة وتصيب الهدف بوقتٍ أقلّ ممّا يحتاجه الكلام.

وهذا ما أيّده ايضاً وزيرُ دعايته غوبلز بتساؤله: إذا ما كانت الحرب تستهلك الكثيرَ من القنابل لتدمير مدفعٍ واحد في يد جنديّ، أليس الأجدى والأرخص إيجاد وسيلة تسبّبُ اضطرابَ الأصابع الضاغطة على الزناد؟ هذه الآراء وغيرها تبنّت الصورة كأداة قتال في الحروب منذ مئات السنوات وصولاً إلى عصرنا. إنه عصر طوفان إعلامي يفيض بعشرات آلاف الوسائل الإعلامية التقليدية، ومليارات من صفحات رقمية وهواتفَ ذكيّة وحسابات مواقع التواصل. إنّه عصر الطوفان التكنولوجي المزدحم بالتقنياتِ الحديثة، الأقمار الاصطناعية وأجهزة الرصد المتطورة...

نحن نعيش عصرَ الصورة بكلّ تجلّياتها ومجالاتها. الصورة ترفع ملتقطَها مع جائزة دولية، تُرقّيه في عمله، أو تطرده منه أو... تقتله. القتال يكون بالصورة وضدّ الصورة. هي الأداة والهدف في حروب نفسيّة توازي وتتقدّم أحياناً المعاركَ العسكرية التي لا تُخاض فقط بالحديد والصواريخ والمدافع. التعامل مع الخصوم وشنّ الحروب يمرّان أيضاً من فوهة كاميرا تحفّز السمع والبصر.

أثبتت دراساتٌ علميّة كثيرة أنّ هاتين الحاسّتين مسؤولتان عن اكتساب الإنسان أكثر من 90% من خبراته عن الحياة الكبرى والصغرى والذات الفردية والجماعية. بهاتين الحاسّتين، تختصر الصورةُ الزمنَ والحدث. وتشرّح المكانَ والموقف. وكما قال عالمُ الاجتماع الفرنسي بيار بورديو، هي تتصدّرالمشهدَ وتُجَنَّد للتعبئة بسلطة رمزية ناعمة. هذه القوى الناعمة، في حرب الأعصاب، تستثير البنيةَ النفسية والذهنية للفرد. ترسّخ أو تشتّت قناعاتِه. تتوجّه إلى العدوّ كأداة نفسية تحبط معنويّاته. تخاطب الرأيَ العامّ العالمي قانونياً وإنسانياً. وتحفّز الفريق المؤيد على الصمود في الحرب النفسية. هذه الأخيرة لا تبدأ على أرض المعركة. تسبق القتال وتُعدّ العقول، تُحصّنها ببعدٍ إيديولوجي وطنيّ. وخلال الحرب، تعمل على تحفيز الروح القتالية وتأكيد الصمود.

وبعد الحرب، تدعم المكاسب وترسّخها. تؤرّخها في الذاكرة الجماعية. تعمّر الصورةُ للحظةِ مملكةً. وكم من صورٍ ثابتة ومتحرّكة - في الحروب والمعارك العالمية والإقليمية، اللبنانية والعربيّة - خلّدت، فضحت، وهدّمت جدار الإشاعات والدعاية المضادّة. وكلّما تميّزت أساليبُ التصوير وتطوّرت تقنياتُه، كلّما كان ترميمُ السمعة أو تحريفها متقَناً في حروب العقول التي اعتبرها نابوليون أقوى من حروب الاسلحة. فكلّ جبهةٍ تؤازرها وتصنعها عقولٌ حربية إعلامية ونفسية. تُجهَّز الأخيرة وتُدرَّسُ استراتيجياتُها في مراكزَ رسمية وخاصة عالمية. تتخصّص بصراع المعلومات وحرب العواطف مع صورة تُوجِّه بارودةُ زواياها، ألوانها أصواتها إلى صدرِ العدوّ أو قلب الصديق. هكذا تكتسب شرعيّتها. تلملم أو تُضاعف قوّتَها المعنوية بالاستعانة بالقدرات البصرية التي – وحسب عالم الاتصال الكندي ماكلوهان- توضحُ الكلامَ وتُغني المعنى بالتفاصيل.

هذه التفاصيل لا تجتمع فقط في الصورة اليومية التي تلتقط عدستُها الواقعَ بغباره، دمه، حجارته، وأشخاصه. فكما للصورة الإعلامية الخَبَرية حيثيّتها ووظيفتها، فإنّ الصورة الفنّية (السينما - الدراما - المسرح...) تتوّج مساحتَها وقضيّتها مقتربةً من الأرض والحقيقة. تحضنها، تعالجها.

لكنّها لن تجسّد أبداً الواقعَ ببشاعته وآلامه وحتى أفراحه. ومثلما تعرّض مصوّرون وإعلاميون للاعتداءات والتضييقات، دفع مخرجون وممثلون أثماناً مُوجعة بسبب أعمالهم المُصوَّرة المبنيّة على قضية وإيديولوجيا. والأمثلة كثيرة عربيّاً وعالمياً عن أفلام سينمائية ومسلسلات درامية رسمت نافذةً تفسّر وتحطّم. تتوغّل في الماضي وتستشرف المستقبل. وكلّ ظالم يدرك أهميّةَ الفنون البصرية التي - عندما تريد - تنخرط في الحرب النفسية ليس كحارس احتياط في لعبة تعويض عن النقص أو الخسارة. هي تحرث أرضَ الخبر والوقائع.

تحصد منها قصصاً وحبكات خصبة بالتفاصيل، الأحداثِ والأبعاد الفكرية الإنسانية العسكرية. تَحملُها شخصياتٌ بدمها ومواقفِها. لكنّ يدَ المحتلّ أو نظام البلد أو صاحب الرأسمال يمنعُون بثَّها. أو يقمعُونها بالترهيب والتهديد أو التمويت. وتُكبَّلُ فرصُ نجاح واستمرار المشاركين فيها. هكذا يُخنق التحفيز وتُطمس الحقيقةُ المجرِمة. فيمتدّ الحصارُ السياسي والعسكريّ إلى العنق الفنّي. المغتصبُ يريد الاستئثار والثأر في حروبه العسكرية الاقتصادية، وكذلك النفسية، الفكرية والثقافية. فيذبح الصورة لكي يطمس صوتها وتختفي شمسُها. شمس يحجّمها ويحجبُها إذا عرَّتْه من ملابسه الداخلية أو أحرقَتْه بأشعّتها ما فوق الصوتية. لأنه يريدها أن تبزغَ من جهته، وتنير وجهه وحده.

-----------------------------------

جريدة صيدونيانيوز.نت / اخبار لبنان / لماذا تغتالُ الحربُ الصورةَ؟

 

 

 

 

2023-10-23

دلالات: