جريدة صيدونيانيوز.نت / خليل المتبولي : لبنان… استقلالٌ معلَّق بين الذاكرة والواقع
Sidonianews.net
------------------------
بقلم : خليل ابراهيم المتبولي
حين يُذكر الاستقلال في لبنان، تنهض صورة عام 1943 ببهائها وبهجتها، صورة رجال الدولة الذين تحدّوا الانتداب الفرنسي، وصاغوا معادلة حكم تُقدَّم في الكتب كعلامة على النهوض الوطني. غير أنّ هذه الصورة، على جمالها، تبقى أقرب إلى لوحةٍ مُحكمة الألوان منها إلى حقيقةٍ مكتملة الأركان. فلبنان، وإن خرج يومها من باب الانتداب، دخل من نوافذ عديدة إلى دهاليز الوصايات الإقليمية والدولية التي لم تترك له فسحة ليختبر استقلاله كما ينبغي لدولةٍ حديثة أن تفعل.
لم يكن استقلال لبنان تامًا في يومٍ من الأيام، بل كان أشبه بعقدٍ سياسي هشّ، يتأرجح بين الداخل الممزّق والخارج المتربّص. فمنذ اللحظة الأولى لولادته، حمل هذا الوطن بذور أزمته، تعدديّة مذهبيّة وطائفية كان يمكن أن تكون ثراءً حضاريًا، لكنها تحوّلت بفعل التاريخ والجغرافيا والمصالح إلى منافذ مشرعة للنفوذ الأجنبي. وهكذا، صار كل فريق يجد في الخارج سندًا يطمئنه وفي الداخل خصمًا يخيفه، فاختلّت المعادلة الوطنية من جذورها.
لقد تعاقبت على لبنان وصايات كثيرة، بعضها مغطّى بمفاهيم الدعم والأخوّة، وبعضها الآخر مفضوح في تدخّله وصراعاته. مرّ البلد بتجارب النفوذ الغربي، العربي، الإقليمي، وحتى الدولي، فتحوّلت أرضه إلى مساحة رسائل متقاطعة، يكتبها الآخرون بدمائه واقتصاده واستقراره. وفي كل مرة حاول الشعب أن ينهض، وجد سقفًا خارجيًا يحدّ طموحه، أو خلافًا داخليًا يعيد إنتاج التبعية بأشكال مختلفة.
ومع ذلك، لم يستسلم اللبنانيون. فقد انتفضوا مراتٍ كثيرة، في وجه الاحتلال والوصاية والحرب والفساد. خرجوا من كل طائفة ومن كل منطقة، يهتفون للحرية، يطالبون بدولةٍ تعلو على الولاءات الصغيرة. لكنّ الجرح الطائفي العميق كان يعود في كل مرة ليقضم آمالهم، إذ لا يمكن لوطنٍ تعدديّ أن يستقلّ بحقّ إلا إذا اجتمع أبناؤه على رؤية وطنية واحدة، لا على اصطفافات يُمليها الخارج ويغذّيها الداخل.
إنّ أزمة الاستقلال في لبنان ليست أزمة تاريخ فقط، إنها أزمة بنية سياسية واجتماعية واقتصادية، تشكّلت على مدى عقود حتى صار الاستقلال “مناسبة” أكثر منه “حقيقة”. فالدولة التي يفترض بها أن تكون مظلة الجميع، بقيت ضعيفة أمام القوى التي تتجاوزها، وتحتاج في كل منعطف إلى وسطاء خارجيين لحلّ خلافاتها الداخلية. ولعلّ هذا هو المعنى الأكثر قسوة للاستقلال المعلّق، أن يظل الوطن رهينة التوازنات الخارجية، وأن يُقاس استقراره بمدى انسجام اللاعبين الدوليين، لا بقدرة مؤسساته على فرض سيادتها.
إن استقلال لبنان الحقيقي لن يُكتب له أن يتحقق ما لم يُبْنَ على إعادة صياغة العلاقة بين مكوّنات المجتمع، وعلى ترسيخ دولة تحكم باسم القانون لا باسم المذهب. دولة تمتلك قرارها العسكري والاقتصادي والسياسي، وتُغلق أبواب التدخل على كل من يسعى لاستثمار انقساماته. دولة تنحاز لشعبها فقط، وتستعيد دورها الطبيعي كقوة جامعة لا كساحة مفتوحة.
وبين الحلم والواقع، يبقى اللبناني متمسكًا بالأمل. فهو يعرف، رغم كل الجراح، أن وطنه قادر على النهوض إن توافرت الإرادة. يعرف أن الإستقلال ليس يومًا في تقويم، بل مسارٌ شاقّ يتطلّب شجاعة مواجهة الذات قبل مواجهة الخارج. وحين يُقرّر اللبنانيون فعلًا أن يبنوا دولة لا طوائف، واستقلالًا لا احتفالًا، عندها فقط سينتهي زمن الاستقلال المزيّف، ويولد لبنان الحرّ حقًا… لبنان الذي طال انتظاره.
--------------------------
جريدة صيدونيانيوز.نت / اخبار لبنان / خليل المتبولي : لبنان… استقلالٌ معلَّق بين الذاكرة والواقع