
جريدة صيدونيانيوز.نت / حسابات نتنياهو تتعارض مع ترامب
Sidonianews.net
-----------------------
الجمهورية / جوني منير
غادر الرئيس الأميركي دونالد ترامب الشرق الأوسط ملوحاً بإشارة النصر بعد البريق الذي استحوذه، إن في الكنيست الإسرائيلي أو في قمّة شرم الشيخ. لكن خلف ابتسامته العريضة، ظهرت مشاعر قلق مما قد يخفيه رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو «المجروح» مما حصل، وواكبت هذه المشاعر ترامب في طريق عودته إلى البيت الأبيض، وهذا ما يفّسر اتصاله بنتنياهو لحضّه على التخفيف من الجو المتشنج بسبب ملف ما تبقّى من جثث الأسرى، ومن ثم الطلب من نائبه جي دي فانس زيارة إسرائيل للاجتماع بنتنياهو، قبل وصول مبعوثه الخاص ستيف ويتكوف إلى المنطقة لاستكمال مهمّته واحتواء التأزيم القائم.
لكن سرعان ما صَدَقت شكوك ترامب مع حصول أول خرق واسع لإطلاق النار في غزة، والذي أدّى إلى استئناف الغارات الإسرائيلية. في الواقع يدرك الجانب الأميركي جيداً أنّ «نيات» نتنياهو ومعه اليمين الإسرائيلي ليست سليمة تجاه اتفاق يرتكز على مبدأ «حل الدولتين». وما يضاعف من مشاعر القلق، ذلك الغموض الذي يحوط بآلية تطبيق عدد من جوانب هذا الإتفاق، خصوصاً في مرحلته الثانية، وهي المرحلة الأخطر والأهم، ففيها من المفترض أن يُطبّق بند نزع السلاح والبدء بترتيب «حل الدولتين». وعلى رغم من اقتناع الجميع بأنّ ترامب هو الوحيد القادر على الضغط على نتنياهو ومنعه من نسف الإتفاق، إلّا أنّ الوضع الأميركي الداخلي بدأ يشكّل عاملاً ضاغطاً في وجه الإدارة الأميركية، مع تحريك المعارضة للشارع من خلال تظاهرات واسعة، وسط استمرار التراجع الإقتصادي. كما أنّ التحدّيات الخارجية بدأت تستحوذ أكثر على اهتمام البيت الأبيض، بدءاً من عودة التركيز على حرب أوكرانيا، ووصولاً إلى التطورات مع فنزويلا. لكن إشارة القلق الكبيرة تجلّت بتكرار نتنياهو «أنّ الحرب لم تنتهِ بعد»، وأنّ الإنتخابات الإسرائيلية ستحصل في حزيران المقبل. وطالما أنّ أبواب الحرب لم تُغلق بكاملها بعد، لا في غزة ولا في لبنان، فإنّ بوادر إستئنافها لا تبدو بعيدة.
في الواقع، فإنّ نتنياهو الشهير بأسلوبه المراوغ، لا يزال متمسكاً بمشروعه القائم على تهجير الفلسطينيين من أرضهم. وهو يسعى لالتقاط أي فرصة واستغلال ملف الجثث مدخلاً لإستئناف تحرّكات عسكرية أوسع، تتضمن عمليات برية وجوية، وعبر التذرّع بوجوب تفكيك أنفاق ومنشآت تصنيع، وممرات تهريب. ما يعني اختصاراً إعادة منح الجيش الإسرائيلي حرية عمل أوسع داخل قطاع غزة. لكن لا بدّ من الإقرار بأنّ من السابق لأوانه عودة الحرب الواسعة، في ظل تمسك ترامب بالحفاظ على الهدوء ولو بحدّه الأدنى. أضف إلى ذلك، تلك الحملات الإعلامية التي بدأت منذ الآن في إسرائيل، والتي تتهم نتنياهو بعدم تحقيق أهداف الحرب لا بل بخسارتها، خصوصاً أنّ حركة «حماس» خرجت من الأنفاق بمظهر عسكري متماسك، لا بل إنّها عمدت إلى تصفية معارضيها وإخضاع الساحة مجدداً لسطوتها. كذلك فهي تتحدث عن نجاح «حزب الله» في إعادة بناء قوته، وبأنّ الخطر لن يتأخّر بالظهور مجدداً عبر الجبهة الشمالية لإسرائيل. وهو ما يؤشر إلى أنّ حكومة نتنياهو ستندفع في اتجاه مغامرة جديدة تؤدي إلى نسف اتفاق غزة، وإلى ضربات جديدة في لبنان. ولفت في هذا الإطار، تلك التدريبات العسكرية الواسعة التي يقوم بها الجيش الإسرائيلي عند الحدود مع لبنان.
لكن واشنطن تتعاطى مع ملف الشرق الأوسط من منظار مختلف. فهي تنظر إلى نزاعها العريض مع الصين، ونجاحها في إقفال المنطقة أمام سعي بكين لاختراقها. وهنا يصبح اتفاق غزة مصلحة حيوية أميركية.
فمن المفترض أن يزور ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان البيت الأبيض الشهر المقبل. وكانت التحضيرات قد بدأت لإنجاز زيارة «تاريخية» وفق الأسلوب الذي يحبه ترامب. ووفق أوساط ديبلوماسية وإعلامية مطلعة، فإنّ التحضيرات تتحدث عن اتفاقات أمنية كبيرة بين واشنطن والرياض، على غرار الإتفاق الذي حصل مع قطر. ومفاده أنّ أي إعتداء على أراضي المملكة سيُعتبر تهديداً للأمن والمصالح الأميركية. وسيترافق ذلك مع إقرار بروتوكول تعاون موسع بين البلدين في المجالات العسكرية والإستخباراتية. ومن الواضح أنّ هذه الإتفاقات، والتي لطالما نادت بها السعودية، تهدف إلى تأمين الحماية من أي اعتداءات قد تكون إيران أو الحوثيون مصدرها، أو حتى إسرائيل، كما حصل في السابق مع استهداف الأراضي السعودية وشركة «أرامكو» بالصواريخ البالستية والمسيّرات الإنتحارية، كما أنّها تؤدي إلى إقفال منطقة الخليج في وجه أي تسلّل للنفوذ الصيني إليها. وكان ترامب قد لمّح إلى وجود حوافز جدّية لضمّ دول جديدة إلى الإتفاقات الإبراهيمية، وهو ما جعل بعض المراقبين يعتقدون أنّه يقصد السعودية. لكن ولي العهد السعودي كان قد اشترط أن يسبق أي خطوة في هذا الإتجاه تحقيق «حل الدولتين».
والرؤيا الأميركية لمنطقة الشرق الأوسط لا تتوقف هنا فقط. ذلك أنّ اتفاق غزة يختزن ضمناً معادلة جديدة في المنطقة، تعطي دوراً أوسع لتركيا على حساب إنحسار دور إيران. لكن هذا الدور التركي الجديد محكوم بضوابط صارمة، كي لا يتكرّر خطأ تفلّت النفوذ الإيراني من دون أي رقيب. فالإتفاق يسمح لتركيا بإرسال قوات إلى غزة، وهي ستبدأ بإرسال فريق من المتخصصين للمساعدة في البحث عن جثامين الإسرائيليين. لكن اللافت أنّ قيادة العمليات تمّ إيكالها إلى مصر، التي تبقى على طرف نقيض مع المفهوم «الإخواني» للحكم القائم في تركيا، على رغم من العلاقة الجيدة القائمة حالياً في الظاهر. وفي الوقت نفسه وفي مكان ليس ببعيد، باشرت تركيا بتجهيز نفسها لإرسال سلاح ومعدات إلى شمال سوريا، بعدما نالت الموافقة الأميركية. وتهدف تركيا إلى توسيع منطقة عملياتها في المنطقة الشمالية لسوريا بعمق 30 كلم وعدم الإكتفاء بعمق 5 كلم القائم حالياً، وبذريعة مواجهة الحركات الإنفصالية لدى الأكراد. لكن هذا التوسع للدور التركي سيتوازن مع دور روسي تبدو دمشق بأمسّ الحاجة لمساعداته، كما أظهرت زيارة الرئيس السوري أحمد الشرع لموسكو. هي معادلة نفوذ جديدة على أنقاض تراجع النفوذ الإيراني، وتعمل واشنطن على حياكتها بكثير من المكر، ووفق مبدأ التوازنات التي اشتهرت بها السياسة الأميركية.
ولكن أين إيران من كل ما يجري؟
تبدو طهران غارقة في البحث عن مخارج وحلول لمشكلاتها الكبيرة. وفي الأمس أعلن وزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي رسمياً «وفاة» الإتفاق النووي الموقّع بين إيران والدول الغربية، بعد انتهاء مهلة السنوات العشر الملحوظة فيه. لكن هذا الإتفاق كان قد مات «سريرياً» منذ أعلن ترامب إنسحاب بلاده منه عام 2018. وإثر ذلك عاودت إيران تعليق إلتزاماتها النووية. ومع تأرجح محاولات العودة إلى الإتفاق إبان ولاية بايدن ومن ثم مع عودة ترامب، إنفجرت الأوضاع مع دخول إدارة ترامب على خط الحرب مباشرة وقيامها بضرب المنشآت النووية. وبعد انتهاء الحرب، وفي إطار تكثيف الضغوط لدفع طهران إلى اتفاق جديد، فعّلت الترويكا الأوروبية «آلية الزناد»، والتي من المتوقع أن تظهر آثارها السلبية على الإقتصاد الإيراني قريباً وبنحو متسارع، مع انضمام دول إضافية إلى العقوبات الأوروبية، وهو ما يؤشر إلى ارتفاع منسوب المشكلات والدخول في مرحلة إيرانية أكثر صعوبة.
وربما بسبب ذلك تطالب واشنطن هذه المرّة بإضافة بند يتعلق بالحدّ من الصواريخ الإيرانية وإخضاعها لشروط صارمة، إضافة إلى الملف النووي. وهو ما تعتبره إيران أنّه يضعها أمام انكشاف عسكري ومخاطر جدّية، وهي بالتالي ملزمة برفضه. لكن واشنطن تراهن على أنّ الأفق يبدو مقفلاً أمام إيران، ما سيدفعها في النهاية إلى المرونة ورمي ما تبقّى من أوراق إقليمية من يدها.
ووفق أوساط ديبلوماسية غربية، فإنّ نقاشاً صاخباً يدور داخل أروقة الطبقة الحاكمة في إيران، وسط دعوات البعض إلى ضرورة إجراء إعادة قراءة شاملة للمسار كله، حيث أنّ المسلك الإيديولوجي الذي اتبع منذ البداية أظهر خطأه، وأنّه لا بدّ من إعادة بناء استراتيجية جديدة، داخلية وخارجية، تسمح بمشاركة أوسع لمختلف الأطياف والفئات الإيرانية، وإجراء إصلاحات في العمق على المستويين الداخلي والخارجي، لكي لا يزداد الأفق غموضاً، خصوصاً أنّ بشائر الحرب الدائرة بين أفغانستان وباكستان قد تصيب بشظاياها إيران، بطريقة أو بأخرى.
ويصبح هنا من المفهوم أن تعمد إدارة ترامب إلى استثمار الواقع الحاصل، إن من خلال تحقيق وقف الحرب، ولو مرحلياً، في غزة، أو من خلال استغلال التعب الإقليمي الذي أصاب النفوذ الأيراني. فساحات المنطقة أصبحت مهيأة أكثر لإحكام قبضة واشنطن العسكرية والسياسية.
لكن حسابات نتنياهو لا تتطابق مع الرؤية الأميركية، في هذه المرحلة على الأقل. فرئيس الحكومة الإسرائيلية يخشى السقوط أمام واقع قضائي صعب، إن على مستوى محاكمات الفساد، أو على مستوى لجنة تحقيق رسمية حول توزيع المسؤوليات بسبب عملية السابع من أوكتوبر. وفي الحالتين يبدو وضع نتنياهو شديد الصعوبة، وهو الذي يتّجه إلى انتخابات على بعد أشهر معدودة، في وقت يتّهمه اليمين الإسرائيلي بخسارة فرصة تهجير الفلسطينيين والقضاء على فكرة قيام الدولتين. من هنا سعت إدارة ترامب لتكبيل يدي نتنياهو من أي مغامرة يائسة في اتجاه لبنان، عبر بدء مفاوضات بين لبنان وإسرائيل. وفي البداية إقترحت واشنطن مهلة شهرين لوقف إطلاق النار، ويجري خلالها البدء بالتفاوض بين لبنان وإسرائيل. لكن إسرائيل رفضت البحث في أي وقف لإطلاق النار، متذرعة بأنّها ستشكّل فرصة ذهبية لـ«حزب الله» لإعادة بناء قوته العسكرية. لا بل إنّ إسرائيل أوحت لسائليها، بأنّ سياسة الإستهداف الجوي اليومي مستمرة ولفترة طويلة وغير محدّدة. وفي اختصار، فهي ستستمر من دون تحديد أي أفق زمني، لا في لبنان ولا في سوريا أيضاً. وفي المقابل، فإنّ لبنان بدوره رفض تشكيل أي لجنة جديدة. فلا مفاوضات مباشرة، بل بطريقة غير مباشرة. وإنّ لجنة «الميكانيزم» تقوم بهذا الدور وعبر رئيسها الأميركي. أما بالنسبة إلى إضافة أشخاص مدنيين إلى الأعضاء العسكريين، فإنّ لبنان يرفض ذلك. ربما يمكن القبول بتقنيين مدنيين وليس أكثر.
وفي وقت تشترط واشنطن إنجاز لبنان خطة حصر السلاح، وإلّا فإنّ المخاطر مع إسرائيل ترتفع، فيما لبنان يشترط في المقابل أن توقف إسرائيل أي حركة عسكرية والإلتزام بوقف كامل لإطلاق النار والإنسحاب من مواقعها في جنوب لبنان، قبل التطرّق إلى التفاوض غير المباشر.
وخلال الأيام الماضية استقدم الجيش اللبناني نحو 1500 عنصر إضافي إلى منطقة جنوب الليطاني. كذلك أرسل تعزيزات إلى محيط مخيم الرشيدية في منطقة صور، حيث تحتفظ حركة «حماس» بسلاحها الصاروخي والثقيل، والذي تماطل وتراوغ في تسليمه، أسوة بما فعلته حركة «فتح». لكن حسابات نتنياهو تتجاوز كل ذلك. فهو محشور جداً على المستوى الداخلي، ويبحث عن ميدان جديد يسمح له بالهروب من أزماته القضائية.
وقبل نهاية الشهر الجاري، يصل السفير الأميركي الجديد ميشال عيسى إلى لبنان. لكن التركيز الأميركي على لبنان تراجع بعض الشيء بسبب الملفات الكثيرة الملحّة في المنطقة، من غزة إلى سوريا وتركيا. وكان معبّراً أن تعمد وزارة الخارجية الأميركية إلى تعيين الجنرال جويل رايبورن مساعداً لوزير الخارجية لشؤون الشرق الأوسط. فالجنرال السابق القادم من الجيش والمتخصص بالحرب العراقية، عمل في وزارة الخارجية كمبعوث خاص إلى سوريا، وقد عمل سابقاً في مجلس الأمن القومي. واللافت أنّ اختصاصه يمتد ما بين سوريا والعراق. أما خبرته اللبنانية فتبدو محدودة.
صحيحٌ أنّ باريس وبالتنسيق مع واشنطن تعمل لعقد مؤتمري دعم واحد للجيش اللبناني وآخر لإعادة الإعمار، لكن الأجواء تؤكّد أنّ مؤتمر دعم الجيش سيحقق نتائجه المطلوبة، لكن لا مؤشرات واعدة حول مؤتمر إعادة الإعمار.
في اختصار، المشهد لا يزال ضبابياً، كي لا نقول قاتماً.
--------------------------
جريدة صيدونيانيوز.نت / اخبار لبنان / حسابات نتنياهو تتعارض مع ترامب